إني أغرق.. أغرق.. أغرق

9 مارس 2011

20110126213

و كنت أنظر إلى السماء ،

داكنة الزرقة ، ترتدي مئة ألف قرطٍ مشع ، و ربما أكثر ،

و كنت أضطجع على رمل اليابسة الذهبي ،

كان يتسلل خلسة بين ملابسي المبللة ،

و تركلني ذراته الصغيرة دفئاً و عبثاً ،

أستنشق أنفاس الحياة بعمق ،

فيزفر المساء حكاياتٍ جريحةٍ على وجهي ،

فأغطي عينيّ لقوة ما اندفع فجأة و أستوي جالسة ،

كان البحر أمامي ممرغاً بالسواد ،

وحوش الظلام تتمتم بالجوار ،

أفتش في جيوبي عما يرمز للحياة ،

أحاول أن أتذكر أين كنت ،

و ماذا حدث !!

تباغتني صور من الذاكرة فأجمد :

صباحٌ جميلٌ مخادع.. كنت قد انتهيت من دراستي الساعة الـ7 صباحاً.. زفرت أنفاس الملل و النصب بحكم أنه اليوم الأخير في امتحاناتي الفصلية. عندما حان الوقت ، نهضت لأجهز نفسي استعداداً للذهاب إلى الجامعة. و قد كان مزاجي فاتناً حد الانتشاء! فلطخت عينيّ ببعض من الكحل ، و وضعتُ قرطاً أحبه على شكل قبعة مكسيكية صفراء. ركبتُ السيارة و مضى السائق في طريقه. و من فرط جمال مزاجي تلك الساعة ، أمسكتُ بهاتفي الخلوي و طفقت ألتقط صوراً لوجهي بوضعيات مختلفة.. تارة أتكئ و تارة أبتسم و تارة أعبس ، و كنت أحرص ألا يراني البشر القابعون في سياراتهم بجواري حتى لا يتساءلوا ما خطبي بحق الله؟!

تابعت وحوش الظلام التلذذ ببث الرعب في نفسي ، فنهضت من مكاني و كأنني جثة تكاد تتهاوى فتاتاً. تأكدت أن جسدي كان قطعة واحدة مكتملة و مشيت بضع خطوات على الرمل الناعم. شعرت بألم طفيف يدق في بطن قدمي كلما دستُ خطوة ، سرقتُ نظرة إليها فوجدت بضعة خدوش معبأة بملح البحر. تجاهلت كل ذلك و حاولت أن أجد مكاناً أقضي فيه ليلتي الباردة هذه. كان الصمت يلقي قصائد انتصاره على منصة المساء ، و كنت أذوب برداً و أنا أبحث عن شعلة دفءٍ تصهر قطع الثلج من دمي! وجدت شجرة نخيل باسقة ، فجلست تحتها بنصب و كأنني أحتضنها. أغمضتُ عينيّ و تابعت الذاكرة سرد مجريات ما حدث :

وصلتُ إلى الجامعة في غضون نصف ساعة..

هناك رأيت صديقتي أمل و قد دعتني للجلوس معها و كنا نراجع ما درسنا بأوراقنا المهترئة حتى سمعت صوت “تك….تك….تك….” هتفت أمل : “ما أجمله ، و ما أجمل الجو” زخات المطر داعبتنا بلطف حينها و هي ترتطم على مهل بوجه ورقتي. كانت أمل تريد أن نكمل مراجعتنا في خضم هذا الهتان الناعم بيد أنه تغير بعض الشيء و أضحى مطراً خفيفاً يتساقط بتتابع ، فضحكنا و تبللت أمتعتنا و آثرنا الدخول إلى المبنى.

بدأ الامتحان..

تسلمنا الأوراق و بدأنا في سكب أجوبتنا. و كنت أكتب ببطء و تأنٍ و هدوء كعادتي.. مضت ساعة.. كانت الساعة الـ12 ظهراً تقريباً.. تنبهت بعض الشيء إلى صوت هطول المطر و كان غزيراً حتى صرخ الرعد فجأة صرخة لم يتوقعها أحد ، فدب الرعب في النفوس ، و قالت الأستاذة : “Looks like it’s heavy rain بسرعة يا بنات ، المورفولوجي يتعوض والعمر ما يتعوض” و قد كان من المفترض أن ينتهي الامتحان بعد ساعة أخرى من الآن إلا أننا عجلنا في الكتابة و يبدو أننا “خبصنا” أيضاً.. سلمتُ ورقتي بعد ربع ساعة من الوسوسة و المراجعة. كانت القاعة الدراسية خالية تقريباً ، لم يتبق سواي ، و بضع فتيات.

سرقني النوم ، و أغلق الإرهاق جفنيّ المتعبين ، و غطتني النجوم بلحاف المساء الأسود. استيقظت إثر احتكاك خيوط دافئة بعنقي ، ففتحت عينيّ و وجدت خصلات من أشعة الشمس ترمي بنفسها على صدري. اتكأت على جذع النخلة و أنا أدلك حواف عينيّ ببطء ، و أبعد خصلة شعري عن وجهي. اكتشفتُ أنني على جزيرة.. تكسوها الخضرة و يعتريها الغموض و الرعب. قمتُ بنصبٍ ، ثم تناهى إلى سمعي نعيق غربانٍ مزعج! فتعجبت ، و تابع شريط مذكراتي بثه :

خرجت إلى الرواق ، ارتديت عباءتي ، و وضعت نظارتي الشمسية في مقدمة رأسي. انطفأت الكهرباء في المبنى و انطفأت أنفاسنا فزعاً. رأيت صديقتي مريم تتحدث مع أمل عن الامتحان و علمتُ أنني “جبت العيد” (بمعنى عكيت في الامتحان) لكن لم أهتم كثيراً ، ما كان يهمني هو الانتهاء من هذا الفصل البائس. خطوت خارج المبنى خطوتين ، فقفزت عينيّ من محجرهما و اجتاح الذهول تضاريس وجهي لهول ما رأيت.. رأيت حافلاتٍ تمشي وسط شوارع الجامعة ، رجالاً يقلون الفتيات و يحاولون إنقاذهن (للتنويه مجرد تواجد الجنس الذكري في الساحة يدل على مدى خطورة الوضع) رأيت أنهاراَ تجري تحت أقدامنا.. أدركت حينها أننا في مأزق..مأزق حقيقي ، و أن هذه الأمطار ليست تلك الأمطار الرومانسية التي رافقتنا في أحد الامتحانات. نحن في أحضان كارثة! ذهب كلٌ في سبيله ، و اتفقت مع مريم أن نبقى سوياً حتى النهاية. ما كان يحدث بالخارج هو أن تلك الحافلات كانت تنقل البشر لبوابات الخروج ، و كان ذلك لمن تصل سيارتها فقط! ( و هل ستصل السيارات حقاً؟) اقترحت أمل أن نستقل إحدى هذه الحافلات و ننتظر سائقي في البوابة. وقفنا على الرصيف نستحم بـ “دوش ” طبيعي غزير. امتلأت عباءتي بجزيئات الماء و الهواء البارد يصفعني من رأسي حتى أخمص قدمي ، و عندما نظرت إلى وجه مريم الخائف و المضطرب ، تفاقم خوفي فعانقت كفي كفها ، و تشابكت أصابعنا بإحكام ، و كنا نحاول امتصاص الرعب من نفوسنا ، و كنا نحاول مد روح كل منا ببعض من قوانا المتهالكة. وصلت حافلة أخرى ، فمشينا نحوها و أقدامنا تغوص في ذلك النهر القذر. وصلنا نحو البوابة ، و جلسنا في المقاعد هناك ، و كان الارتعاش لا يفارقني قلباً و قالباً. أمسكت بهاتفي الخلوي و كتبت في الفيس بوك : “جالسين نغرق بجد.. يارب الطف.. أحبكم” و كأنني أودع الحياة على طريقتي الفيسبوكية!

كنت أشعر بالضياع على تلك الجزيرة !

شكرت الشمس على تجفيف ملابسي ، و سرقت من أوراق الشجر لأغطي بها جروحي. و كانت الحيوانات الصغيرة تأكل ما تعثر عليه خلسة ، و كانت الروح تنزف. كنت جائعة و مرهقة. عثرت على غصن شجرة فكتبت به على رمال الشاطئ كلمة “النجدة” لكن أمواج البحر لا تلبث أن تمسحها بكل برود و جبروت! كنت أصرخ طلباً للنجدة و كانت السحب تبتلع صوتي. و كانت الأزهار تتجاهلني و تحاول أن تغريني بألوانها الزاهية ، و كأن جرحي لن يلبث حتى يتخثر و يكون نسياً منسياً! كل شيء كان يسكتني.. السماء و الأرض و الشمس و النجوم و الغربان و الورود حتى نسمات الهواء حين تندفع إلى رئتي بقوة و تخرسني! فجأة! تناهى إلى سمعي صوت جسد يتحرك بين أوراق الشجر ، التقطت أنفاسي ، اتسعت عيناي دهشة و فزعاً ، و رأيت تلك المومياء العملاقة تنتصب بخيلاء ، و كانت الأرض تتأوه بشدة لثقل خطواتها على صدرها ، و كنت أسمع صوت أجساد النمل الدقيقة وهي تتفتت إثر غلاظة خطواتها! اصطبغ كل شيء باللون الأرجواني القاتم ، وطفقت أتذكر ذلك الصوت داخل رأسي.. كان يصرخ و يقول : “إني أغرق.. أغرق.. أغرق”..

 

تمت ،

مهــــــا،،

باقة خزامى ،

16 تعليق to “إني أغرق.. أغرق.. أغرق”

  1. pearl Says:

    رائعة يا مها. حفظك الله و حفظ جدة لنا من يدي كل خائن.

    • saltytears Says:

      الغالية بثينة ،

      اللهم آمين ،
      حفظ الله الوطن و أدام لنا أمنه و استقراره..

      سعيدة بهذه الزيارة حد السماء 🙂
      شكراً بيبا..

      مها،


  2. صباح الخير …

    السماء ترتدي المجهول دائماً ومتى ما تعرّت … كشفت عن مجهول في مجهول !! … هي قد تأتي بالحياة … لكن الحياة لا تأتي دائماً بالحياة ولا يمكن أن يأتمن المرء خناجرها !! … الماء بعض الأحيان يُجْعَلُ منهُ أحياءٌ , يقتادون بعضهم بعضاً إلى الموت.
    البحر حتى يلا يهجره البشر ويتركوه … يضطر إلى أن يجود عليهم بشيء … فيغض النظر عن ” الجرائم التي تحدث في بيئته ” … يترك شعوبه تأكل بعضها بعضاً … لكي في الأخير يطعمها لمخلوقات أخرى !!
    بنو البشر هم أيضاً كذلك !!

    لكن في النهاية … الحياة تحتاج أن يكتب المرء على قلبه ’’ النجدة ‘‘ فلا منجد للنفس من النفس إلا النفس !! … تحتاج أن يقف المرء فيها كالنخيل …منتصباً صامداً .. وأن لا ينكسر … كي لا يستحيله الطوفان جثة هامدة ويقذف به حيث المياه الآسنة.

    صدقيني … لا يمكن للألوان الزاهية أن تنسي ما في قلب الإنسان … لا يمكن لها أن تظل ذات رونق وذات إغراء في قلوب البشر … إذا فقد البشر طعم ‘‘ أن يشعروا بأنهم أحياء ’’ وإن بين صفائح … فالحياة قد تأتي بالإغراء … لكن الإغراء لا يأتي دائماً بالحياة !! ‘‘ أفهل يتعلمون من أخطائهم ويتغيرون !! متى يزرعون الحياة بدل أن يزرعوا لتلك البذور الميتة’’ ..؟

    الشمس لا تجفف إلا الأحياء … ولا تطلع إلا على الأحرار.

    مها سلمت يداكِ.

    كوني بخير.

    • saltytears Says:

      “الشمس لا تجفف إلا الأحياء … ولا تطلع إلا على الأحرار.”

      هممم يمكننا أن نستخدمها في كتابة سيناريو فيلم تاريخي.. صدقني! : )

      أشكر لك قراءتك المتعمقة للنص ،
      شكراً خيو رحال،،
      مها،


      • مها … أعتقد بأن كلُّ ما يجود بهِ النص ” من دراسات وتعليقات ونقد وإطراء … إلخ ” فهو له.

        أشكركِ على تخليد هذه الجملة : ) …

        تقديري الكبير جداً.


  3. مبدعه يامها .,,اسلوبك اجبرني على القراءه باستمتاع.,,


  4. تسجيل مقعدي , و اعود مع الكوكا و البوب كورن 😉


  5. لا استطيع وصفك الآن الا بكلمة واحدة “جميلة!” ..

    🙂

    و احبك دائما و ابدا


  6. ممممممم
    سئمت تكرار هذه المأساة 😦
    جميلة يا مها حتى في حزنك و ألمك
    ود منهمر و ياسمين

  7. الحياة متعة Says:

    مأساة حقيقة
    جاءنا وقت بائس ..!
    الحمد لله على سلامة الجميع

    شكرا على الخواطر ونقل الأحداث

    محبتك

  8. hanoof3 Says:

    عزيزتي مها ..

    مصابكم عظيم جدًا

    أسأل الله أن لا يريكم في جده مكروه

    استمتعت بكِ كالعادة (L)


أضف تعليق